فصل: تفسير الآية رقم (276):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآية رقم (276):

القول في تأويل قوله تعالى: {يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} [276].
{يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا} أي: يذهب ريعه ويمحو خيره، وإن كان زيادة في الظاهر فلا ينتفع به في الآخرة كما قال تعالى: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُو عِنْدَ اللَّه} [الروم: 39]، وقال تعالى: {وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ} [الأنفال: 37]: {وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} أي: يكثرها وينميها،إن كانت نقصاناً في الشاهد.
فوائد:
الأولى: قال القاشاني: لأن الزيادة والنقصان إنما يكونان باعتبار العاقبة والنفع في الدارين. والمال الحاصل من الربا لا بركة له؛ لأنه حصل من مخالفة الحق. فتكون عاقبته وخيمة وصاحبه يرتكب سائر المعاصي؛ إذ كل طعام يولّد في آكله دواعي وأفعالاً من جنسه. فإن كان حراماً يدعوه إلى أفعال محرمة، وإن كان مكروهاً فإلى أفعال مكروهة. وإن كان مباحاً فإلى مباحة. وإن كان من طعام فضل فإلى مندوبات، وكان في أفعاله متبرعا ًمتفضلاً. وإن كان بقدر الواجب من الحقوق فأفعاله تكون واجبة ضرورية. وإن كان من الفضول والحظوظ فأفعاله تكون كذلك. فعليه إثم الربا وآثار أفعاله المحرمة المتولدة من أكله. فتزداد عقوباته وآثامه أبداً. ويتلف الله ما له في الدنيا، فلا ينتفع به أعقابه وأولاده. فيكون ممن خسر الدنيا والآخرة، وذلك هو المحق الكلي. وأما المتصدق فلكون ماله مزكّى يبارك الله في تثميره مع حفظ الأصل. وآكله لا يكون إلا مطيعاً في أفعاله. ويبقى ماله في أعقابه وأولاده منتفعاً به. وذلك هو الزيادة في الحقيقة. ولو لم تكن زيادته إلا ما صرف في طاعة الله لكفى به زيادة. وأي زيادة أفضل مما تبقّى عند الله؟! ولو لم يكن نقصان الربا إلا حصوله من مخالفة الله وارتكاب نهيه لكفى به نقصاناً. وأي نقصان أفحش مما يكون سبب حجاب صاحبه وعذابه ونقصان حظه عند الله؟!
الثانية: قال القاشاني عليه الرحمة قبل ذلك: آكل الربا أسوأ حالاً من جميع مرتكبي الكبائر. فإن كل مكتسب له توكل ما فيه كسبه، قليلاً كان أو كثيراً. كالتاجر والزارع والمحترف. إذ لم يعينوا أرزاقهم بعقولهم ولن تتعين لهم قبل الاكتساب. فهم على غير معلوم في الحقيقة. كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أبى الله أن يرزق المؤمن إلا من حيث لا يعلم». وأما آكل الربا فقد عين على آخذه مكسبه ورزقه. سواء ربح الآخذ أو خسر. فهو محجوب عن ربه بنفسه، وعن رزقه بتعيينه. لا توكل له أصلاً. فوكله الله تعالى إلى نفسه وعقله. وأخرجه من حفظه وكلاءته. فاختطفه الجن وخبلته. فيقوم يوم القيامة ولا رابطة بينه وبين الله كسائر الناس المرتبطين به بالتوكل، فيكون كالمصروع الذي مسّه الشيطان فتخبطه، لا يهتدي إلى مقصد.
الثالثة: قال بعض العلماء العمرانيين: يشترط لجواز التموّل أن يكون من وجه مشروع كما في مقابلة عمل أو معاوضة. وأن لا يتجاوز المال قدر الحاجة بكثير. ولذا حرمت الشرائع السماوية كلها. وكذلك الحكمة السياسية والأخلاقية والعمرانية أكل الربا، قصداً لحفظ التساوي والتقارب بين الناس في القوة المالية، لأن الربا هو كسب بدون مقابل ماديّ، ففيه معنى الغصب. وبدون عمل، ففيه الألفة على البطالة المفسدة للأخلاق. وبدون تعرض لخسائر طبيعية، كالتجارة والزراعة والأملاك. ومن المشاهد: أن بالربا تربو الثروات فيختل التساوي بين الناس.
ثم قال: وقد نظر الماليون والاقتصاديون في أمر الربا فقالوا: إن المعتدل منه نافع بل لابد منه. أولاً: لأجل قيام المعاملات الكبيرة. وثانياً: لأجل أن النقود الموجودة لا تفي للتداول، فكيف إذا أمسك المكتنزون قسماً منها أيضاً؟! وثالثاً: لأجل أن الكثيرين من المتمولين لا يعرفون طرائق الاسترباح، أو لا يقدرون عليها. كما أن كثيراً من العارفين بها لا يجدون رؤوس أموال ولا شركاء عنان.
فهذا النظر صحيح من وجه إنماء ثروات الأفراد والأمم. أما السياسيون والأخلاقيون: فينظرون إلى أن ضرر ذلك في جمهور الأمم أكبر من نفعها، لأن هذه الثروات الإفرادية تمكن الاستبداد الداخلي. فتجعل الناس صنفين: عبيداً وأسياداً. وتقوي الاستبداد الخارجي فتسهل التعدي على حرية واستقلال الأمم الضعيفة مالاً وعدة. وهذه مقاصد فاسدة في نظر الحكمة والعدالة. ولذلك حرمت الأديان الربا تحريماً مغلظاً. انتهى.
الرابعة: قال الرازي: لما بالغ تعالى في الزجر عن الربا، وكان قد بالغ في الآيات المتقدمة في الأمر بالصدقات، ذكر هاهنا ما يجري مجرى الداعي إلى ترك الصدقات وفعل الربا، وكشف عن فساده. وذلك لأن الداعي إلى فعل الربا تحصيل المزيد في الخيرات. والصارف عن الصدقات: الاحتراز عن نقصان الخيرات. فبين تعالى أن الربا وإن كان زيادة في المال إلا أنه نقصان في الحقيقة. وإن الصدقة وإن كانت نقصاناً في الصورة إلا أنها زيادة في المعنى. ولما كان الأمر كذلك كان اللائق بالعاقل أن لا يلتفت إلى ما يقضي به الطبع والحس من الدواعي والصوارف. بل يعول على ما ندبه الشرع إليه منهما.
وقال القفال: ونظير قوله: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا}، المثل الذي ضربه فيما تقدم بصفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلداً. ونظير قوله: {وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ}، المثل الذي ضربه بحبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة.
{وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} صيغتا مبالغة من الكفر والإثم، لاستمرار مستحل الربا وآكله عليهما وتماديه في ذلك. وفي الآية تغليظ في أمر الربا وإيذان بأنه من فعل الكفار، لا من فعل المسلمين.

.تفسير الآية رقم (277):

القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [277].
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ} بالله ورسوله وكتبه وبتحريم الربا، ورجح إيمانهم أمر الله بالإنفاق، على جمعهم للمال: {وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ} فيما بينهم وبين ربهم التي من جملتها الجود وترك الربا: {وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ} التي تنهى عن الفحشاء والمنكر، كالشح والربا: {وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ} أعطوا زكاة أموالهم التي هي أجل أسباب فضيلة الجود: {لَهُمْ أَجْرُهُمْ} ثوابهم الكامل: {عِندَ رَبِّهِمْ} في الجنة: {وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} يوم الفزع الأكبر.
{وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} لأنهم فرحون بما آتاهم ربهم ووقاهم عذاب الجحيم.

.تفسير الآية رقم (278):

القول في تأويل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [278].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ} أي: اخشوا الله في الربا، لأن فيه إبطال حكمته تعالى في خلق الأموال: {وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} أي: اتركوا ما بقي لكم من الربا على الغرماء: {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} على الحقيقة. فإن ذلك مستلزم لما أمرتم به البتة.
قال الحرالي: فبين أن الربا والإيمان لا يجتمعان.

.تفسير الآية رقم (279):

القول في تأويل قوله تعالى: {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ} [279].
{فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ} أي: لم تتركوا ما بقي: {فَأْذَنُواْ} أي: اعلموا: {بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ} قال المهايمي: أي: إن لم تفعلوا ترك ما بقي كنتم متهاونين بأمره. ومن تهاون بأمر ملك حاربه.
والحرب نقيض السلم. ومن حاربه الله ورسوله لا يفلح أبداً. وفيه إيماء إلى سوء الخاتمة إن دام على أكله {وَإِن تُبْتُمْ} من الربا: {فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ} أي: أصولها: {لاَ تَظْلِمُونَ} بطلب الزيادة: {وَلاَ تُظْلَمُونَ} بالنقص والمطل. بل لكم ما بذلتم من غير زيادة عليه ولا نقص فيه. ثم أمر تعالى بالصبر على المعسر الذي لا يجد وفاء، فقال:

.تفسير الآية رقم (280):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [280].
{وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ} أي: بالكل أو البعض: {فَنَظِرَةٌ} أي: فالواجب إمهال بقدر ما أعسر: {إِلَى مَيْسَرَةٍ} أي: بذلك القدر. لا كما كان أهل الجاهلية، يقول أحدهم لمدينه إذا حل عليه الذين: إما أن تقضي وإما أن تربي. ثم ندب تعالى إلى الوضع من المعسر ووعد عليه الخير والثواب الجزيل فقال: {وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} أي وأن تتركوا للمعسر قدر ما أعسر بإبرائه منه، لأنه ربما لا يحصل البدل في الحال، فيأخذ ما يساويه في الآخرة. والصدقة تتضاعف الأضعاف المذكورة.
وقد أخرج البخاري ومسلم والنسائي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كان رجل يداين الناس، فكان يقول لفتاه: إذا أتيت معسراً فتجاوز عنه، لعل الله أن يتجاوز عنا، فلقي الله فتجاوز عنه». وأخرج مسلم والترمذي نحوه عن أبي مسعود البدري رضي الله عنه.
وعن أبي قتادة الحارث بن رِبْعيالأنصاري قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من نفَّس عن غريمه أو محا عنه، كان في ظل العرش يوم القيامة». رواه الإمام أحمد ومسلم. وعن بريدة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من أنظر معسراً فله بكل يوم مثله صدقة. قال: ثم سمعته يقول: من أنظر معسراً فله لكل يوم مثلاه صدقة». فسألته عن ذلك فقال صلى الله عليه وسلم: «له بكل يوم صدقة قبل أن يحل الدين. فإذا حل الدين فأنظره، فله بكل يوم مثلاه صدقة». وعن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم: «من أنظر معسراً أو وضع عنه، وقاه الله من فيح جهنم». رواهما الإمام أحمد، ثم قال تعالى يعظ عباده ويذكرهم زوال الدنيا وفناء ما فيها من الأموال وغيرها، وإتيان الآخرة والرجوع إليه تعالى، ومحاسبته تعالى خلقه على ما عملوا، ومجازاته إياهم بما كسبوا من خير وشر، ويحذرهم عقوبته، فقال:

.تفسير الآية رقم (281):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَاتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} [281].
{وَاتَّقُواْ يَوْماً} أي: اخشوا عذاب يوم: {تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ} ما عملت من خير أو شر.
قال المهايمي: فإن استوفى الدائن حقه بالتضييق على المديون استوفى الله منه حقوقه بالتضييق. وإن سامحه فالله أولى بالمسامحة. والمديون، إن لم يوف حق الدائن مع قدرته على الأداء استوفى الله منه حقه. وأما من لا يقدر، فيرجى أن يعفوا الله عنه، ويرضى خصمه بعوض من عنده: {وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} لا ينقص من حسناتهم ولا يزاد على سيئاتهم.
تنبيه:
من تأمل هذه الآيات وما اشتملت عليه من عقوبة أهل الربا ومستحليه، أكبر جرمه وإثمه. فقد ترتب عليه قيامهم في المحشر مخبلين وتخليدهم في النار ونبزهم بالكفر. والحرب من الله ورسوله واللعنة. وكذا الذم والبغض وسقوط العدالة وزوال الأمانة، وحصول اسم الفسق والقسوة والغلظة ودعاء من ظلم بأخذ ماله على ظالمه. وذلك سبب لزوال الخير والبركة. فما أقبح هذه المعصية وأزيد فحشها. وأعظم ما يترتب من العقوبات عليها! وقد شرح رسول الله صلى الله عليه وسلم ما طوى التصريح به في تلك الآيات من العقوبات والقبائح الحاصلة لأهل الربا في أحاديث كثيرة. فمنها: ما رواه الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «اجتنبوا السبع الموبقات أي: المهلكات قالوا: يا رسول الله! وما هن؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات». وأخرج البخاري عن سَمُرة بن جُنْدب عن النبي صلى الله عليه وسلم: «رأيت الليلة رجلين أتياني فأخرجاني إلى أرض مقدسة. فانطلقنا حتى أتينا على نهر من دم. فيه رجل قائم. وعلى شط النهر رجل بين يديه حجارة. فأقبل الرجل الذي في النهر. فإذا أراد أن يخرج رمى الرجل بحجر في فيه فرده حيث كان. فجعل كلما جاء ليخرج رمى في فيه بحجر فيرجع كما كان. فقلت: ما هذا الذي رأيته في النهر؟ قال: آكل الربا». وأخرج مسلم عن جابر بن عبد الله قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه. وقال: «هم سواء». وأخرج البخاري وأبو داود عن أبي جحيفة قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الواشمة والمستوشمة وآكل الربا وموكله. وثمة آثار وافرة، ساقها السيوطي في الدر المنثور:

.تفسير الآية رقم (282):

القول في تأويل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللّهَ رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ من رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُواْ وَلاَ تَسْأَمُوْاْ أَن تَكْتُبُوْهُ صَغِيراً أَو كَبِيراً إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللّهِ وَأَقْومُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُواْ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوْاْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [282].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} هذا إرشاد منه تعالى لعباده المؤمنين، إذا تعاملوا معادلات مؤجلة، أن يكتبوها ليكون ذلك أحفظ لمقدارها وميقاتها وأضبط للشاهد فيها. وقد نبه على هذا في آخر الآية حيث قال: {ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللّهِ وَأَقْومُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُواْ} وفي قوله: {تَدَايَنتُم} دليل على جواز السلم، لأن المداينة فعل اثنين وهو السلم نفسه، لأنه دين من الجانبين جميعاً. وعلى ذلك روي عن ابن عباس قال: أشهد أن السلف المضمون إلى أجل مسمى، أن الله تعالى أحلّه وأذِنَ فيه ثم قرأ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم} الآية. رواه البخاري.
وقال آخرون: قوله: {إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ} هو بيع كل دين إلى أجل مسمى. فهو يسمى التداين. كما يسمى البائع والمشتري المتبايعين، لأن كل واحد منهما بائع في وجه. فعلى ذلك، المداينة: التداين. وإنما لم نؤمر بالكتابة في بيع الأعيان، لأنه في المداينات، وصل أحدهما إلى حاجته يقبض راس المال والآخر لم يصل. فلعل ذلك يحمله على إنكار الحق والجحود. فإذا تذكر أنه كتب وأشهد عليه ارتدع عن الإنكار والجحود. لما يخاف ظهور كذبه وفضيحته على الناس، ولا كذلك مع العين بالعين، لأن كل واحد منهما لا يصل إلى حاجته إلا بما يصل به الآخر. فليس هنالك للإنكار معنى، وثمة وجه آخر: وهو أنه يجوز أن ينسى فينكر ذلك. أو ينسى بعضه ويذكر بعضاً، فأمر بالكتابة لئلا يبطل حق الآخر بترك الكتابة. ولا كذلك في بيع العين بالعين. فافترقا. كذا في التأويلات للماتريدي: {وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ} أي: الدين المذكور: {كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ} الجار متعلق إما بالفعل أي: وليكتب بالحق. أو بمحذوف صفة لكاتب، أي: وليكن المتصدي للكتابة من شأنه أن يكتب بالسوية من غير ميل إلى أحد الجانبين. لا يزيد ولا ينقص. وهو أمر للمتداينين باختيار كاتب فقيه ديّن، حتى يجيء كتابه موثوقاً به معدلاً بالشرع: {وَلاَ يَأْبَ} أي: ولا يمتنع: {كَاتِبٌ} من: {أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللّهُ} أي: كما بينه بقوله تعالى: {بِالْعَدْلِ}. أو لا يأبى أن ينفع الناس بكتابته، كما نفعه الله بتعليم الكتاب، كقوله تعالى: {وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْك} [القصص: 77]. وفي الحديث: «إن من الصدقة أن تعين صانعاً أو تصنع لأخرق». وفي الحديث الآخر: «من كتم علماً يعلمه، ألجم بلجام من نار».
قال الرازي: ظاهر هذا الكلام نهيٌ لكل كاتب عن الامتناع من الكتابة. وإيجابها على كل من كان كاتباً: {فَلْيَكْتُبْ} أي: تلك الكتابة المعلمة. أمر بها بعد النهي عن إبائها تأكيداً لها: {وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ} الإملال: الإملاء. وهما لغتان نطق القرآن بهما. قال تعالى: {فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ} [الفرقان: 5]. أي: وليكن المملي على الكاتب المدين وهو الذي عليه الحق، لأنه المقر المشهود عليه: {وَلْيَتَّقِ} أي: وليخش المملي: {اللّهَ رَبَّهُ} جمع ما بين الاسم الجليل والنعت الجميل، للمبالغة في التحذير: {وَلاَ يَبْخَسْ} أي: لا ينقص: {مِنْهُ} أي: مما عليه: {شَيْئاً} مما عليه من الدين: {فَإن كَانَ} المدين وهو: {الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً} أي: خفيف الحلم أو جاهلاً بالإملاء لا يحسنه: {أَوْ ضَعِيفاً} صبياً أو شيخاً هرماً: {أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ} أي: أو غير مستطيع للإملاء بنفسه- لعيّ به أو خرس أو عجمة. ولفظ هو هنا توكيد للفاعل المضمر- والجمهور على ضم الهاء لأنها كلمة منفصلة عما قبلها، فهي مبدوء بها. وقرأ بإسكانها على أن يكون أجري المنفصل مجرى المتصل بالواو أو الفاء أو اللام. نحو: وهو، فهو، لهو. قاله أبو البقاء،: {فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ} يعني الذي يلي امره من قيّم أو وكيل أو ترجمان: {بِالْعَدْلِ} من غير نقص ولا زيادة: {وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ من رِّجَالِكُمْ} أي: اطلبوهما ليتحملا الشهادة على المداينة: {فَإِن لَّمْ يَكُونَا} أي: الشاهدان: {رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ} أي: في العدالة: {مِنَ الشُّهَدَاء} ولما شرط في القيام مقام الواحد من الرجال، العدد من النساء، علله بما يشير إلى نقص الضبط فيهن، فقال: {أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا} أي: تغيب عنها الشهادة: {فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى} الضالة: {وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُواْ} أي: لأداء الشهادة التي تحملوها أو لتحملها. وتسميتهم شهداء قبل التحميل من تنزيل المشارف منزلة الواقع: {وَلاَ تَسْأَمُوْاْ أَن تَكْتُبُوْهُ} أي: الدين: {صَغِيراً أَو كَبِيراً إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ} أي: المذكور من الكتابة: {أَقْسَطُ} أي: أعدل: {عِندَ اللّهِ وَأَقْومُ لِلشَّهَادَةِ} أي: أعون لإقامتها؛ إذ بها يتم الاعتماد على الحفظ: {وَأَدْنَى} أي: أقرب: {أَلاَّ تَرْتَابُواْ} أي: لا تشكو في جنس الدين وقدره وأجله بتشكيك أحد المتداينين: {إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً} أي: حالة: {تُدِيرُونَهَا} أي: تكثرون إدارتها: {بَيْنَكُمْ} فتصعب عليكم كتابتها مع قلة الحاجة إليها: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا} لأنها مناجزة فيبعد فيها التنازع والنسيان. قال أبو البقاء: تجارة يقرأ بالرفع على أن تكون التامة وحاضرة صفتها. ويجوز أن تكون الناقصة، واسمها تجارة، وحاضرة صفتها، وتديرونها الخبر. وقرأ بالنصب على أن يكون اسم الفاعل مضمراً فيه، تقديره إلا أن تكون المبايعة تجارة: {وَأَشْهِدُوْاْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ} أمر بالإشهاد على التبايع مطلقاً ناجزاً أو كالئاً، لأنه أحوط وأبعد مما عسى يقع من الاختلاف. ويجوز أن يراد: وأشهدوا إذا تبايعتم هذا التبايع. يعني التجارة الحاضرة، على أن الإشهاد كافٍ فيه دون الكتابة. وعن الضحاك. هي عزيمة من الله ولو على باقة بقل. كذا في الكشاف. وأخرج ابن المنذر عن جابر بن زيد أنه اشترى سوطاً فأشهد وقال: قال الله: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ}.
قال أبو القاسم بن سلامة في كتابه الناسخ والمنسوخ: قد كان جماعة من التابعين يرون أنهم يشهدون في كل بيع وابتياع. فمنهم الشعبي وإبراهيم النَّخَعِي.
كانوا يقولون: إنا نرى أن نشهد ولو في جرزة بقل.
{وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ} يحتمل البناء للفاعل والمفعول. ويدل عليه أنه قرئ: {ولا يضارر} بالكسر والفتح والمعنى نهي الكاتب والشهيد عن ترك الإجابة إلى ما يطلب منهما، وعن التحريف والزيادة والنقصان، أو النهي عن الضرار بهما بأن يعجلا عن مهم. قال الحرالي: في الإحنة تعريض بالإحسان منه للشهيد والكاتب ليجيبه لمراده، ويعينه على الائتمار لأمر بما يدفع من ضرر، عطلته واستعماله في أمر من أمور دنياه. ففي تعريضه إجازة لما يأخذه الكاتب ومن يدعي لإقامة معونة في نحوه ممن يعرض له فيما يضره التخلي عنه.
{وَإِن تَفْعَلُواْ} أي: ما نهيتم عنه من الضرار: {فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ} أي: خروج بكم عن الشرع الذي نهجه الله لكم. قال الحرالي: وفي صيغة فعول تأكيد فيه وتشديد في النذارة.
{وَاتَّقُواْ اللّهَ} أن يعذبكم بالخروج عن طاعته: {وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ} أحكامه المتضمنة لمصالحكم: {وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} ولما كان التقدير: هذا إذا كنتم حضوراً يسهل عليكم إحضار الكاتب والشاهد، عطف عليه قوله: